03/09/2022 - 22:32

حوار مع محمد جبالي | الفنون الإسرائيلية في "مصيدة المكان"

الكتاب يتطرق للعلاقة بين النظام الحسي الجمالي الذي تحدثنا عنه وتكوينه وبين النظام الغربي العالمي، على سبيل المثال، لا أعرف إذا كنت قد سمعت عن الجدل المحتد الذي دار مؤخرا حول معرض "دكومينتا" الذي أقيم في كاسل بألمانيا، وكيف لم

حوار مع محمد جبالي | الفنون الإسرائيلية في

معرض فني تشكيلي إسرائيلي في القدس (توضيحية - Gettyimages)

صدر مؤخرا عن مركز "مدار" للدراسات الإسرائيلية كتاب في "مصيدة المكان" لمحمد جبالي، وهو عبارة عن دراسة نقدية لحقل الفنون التشكيلية في إسرائيل.

وينسج الكتاب تاريخًا لا خطّيًا للفن الإسرائيلي، ناقلًا حركاته الرئيسة والتحولات المهمة فيه، ومتجولًا في معارضه البارزة ومدارسه المختلفة، عبر أزمنة متعددة، مفككًا روايات هذه الحركات، وكاشفًا عن مغالطاتها وزيف تمثيلها للمقاومة والمثالية.

وهو يشكل، كما جاء في مقدمته، وعلى امتداد فصوله، ومن خلال التركيز على مُنتج الفنون التشكيلية، جوابًا عن سؤال ذي شقين: ما هو الفن الإسرائيلي المعاصر؟ وكيف يكتب الحقل الفني الإسرائيلي الراهن تاريخ تشكيله؟ باحثًا عن الآليات الجماليّة والحسيّة التي يطبقها الحقل الفني على المجتمع الإسرائيلي، واليهود في العالم، وأرض فلسطين وشعب فلسطين.

ويتعرض الكتاب لبحث بعض من الخطوط العريضة التي تحاول أن تشكل الإطار الذي يحوي جواب سؤال ذي شقين: ما هو الفن الإسرائيلي المعارض؟ وكيف يكتب الحقل الفني الإسرائيلي الراهن تاريخ تشكيله؟ مركزين على منتج الفنون التشكيلية، أو ما يصطلح على تسميته "الفن الرفيع".

محاولا الإجابة على تساؤلات تتعلق بآلاليات الجمالية والحسية التي يطبقها الحقل الفني على المجتمع الإسرائيلي، اليهود في العالم، صورة إسرائيل في العالم، وعلى أرض فلسطين وشعب فلسطين، وما هي علاقتها الجدلية مع تكوين مفهوم "إسرائيل" ومفهوم "الشعب اليهودي" في العالم؟ ككل من جهة، وما علاقتها مع ممارسة سلطة إسرائيل وسيطرة "الشعب اليهودي" على أرض فلسطين من جهة أخرى.

غلاف الكتاب

وفي فصل "المستوطنون" يبدأ الكاتب من السؤال: "هل يمكن للفن أن يأتي من الجانب اليميني للخارطة الإسرائيلية؟" كما يُناقش إسرائيليا، ليوضح كيف أن تاريخ الفن الإسرائيلي المتداول هو أصلا تاريخ صياغة تجربة المجتمع الاستيطاني في فلسطين في حقبات عدة، وأنه ليس هنالك من منظور يصلح لقراءة هذا التاريخ أفضل من قراءته كتوسع مستمر لصياغة المعضلات والتشكلات الاجتماعية، التي تعبر عن التجربة الحسية والجمالية التي يواجهها المجتمع الاستيطاني مع توسع رقعة استعماره جغرافيًا ومعها ديمغرافيًا، وكيف تتشابه التعابير بين طرفي الخارطة السياسية الإسرائيلية لو قرأناها من هذا المنظور.

ويتناول الشق الآخر من الكتاب العملية الاستعمارية الأخرى التي يتم بحثها في الأدبيات النقدية الإسرائيلية، وفي أعقابها في الوسط الفني، وهي "العملية الاستعمارية" التي تمارسها الصهيونية داخل الكيان اليهودي الجمعي، ألا وهي عملية محو الشتات والتنكر لقيم اليهودية الشتاتية من خلال برنامج بناء كيان جمعي سيادي غربي يتنكر للشرق ويتنكر للدين ويساوي ما بين الشرق والدين.

وفي هذا السياق يشير الكتاب إلى الخلط بن الممارسة الإسرائيلية الاستعمارية في فلسطين وممارسات الهيمنة الثقافية والسياسية داخل الكيان الجمعي اليهودي لنخب حاملة لمشروع استعماري غربي، هذا الخلط الذي يعتبر العمليتين عملية واحدة أو عمليات تتبع الخانة نفسها، خانة "الممارسة الاستعمارية"، ولهذا فهما وجهان للشيء نفسه: طابع النظام الصهيوني الاستعماري، وهو منطق لا يؤدي إلّا إلى المزيد من تطبيع العملية الاستعمارية الإسرائيلية في فلسطين وتحويلها إلى مجرد إشكاليات داخلية للنظام السياسي الصهيوني يتم حلها داخله.

لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الكتاب والموضوع الذي يطرحه، كان هذا الحوار مع مؤلفه محمد جبالي.

"عرب 48": لماذا "مصيدة المكان"؟

جبالي: الكتاب يحاول أن يعتني بالإجابة عن سؤال، ما هي السلطة الجمالية الممارسة على فلسطين؟ والمقصود بالسلطة الجمالية هي المنظومة المكونة من أشخاص، نخب، مفاهيم وأدوات حسية وجمالية، وسائط معينة، مجلات، وسائط نقل معلومات وبصريات وغيرها.

محمد جبالي

في إطار الشبكة الاجتماعية تلك يتم تقرير ما هو الجميل وما هو القبيح وما يمكن أن نحس بأنه جميل وما يمكن أن نحس أنه قبيح؟ وعادة ما يكون الفن جزءا من هذه المنظومة التي تشكل لنا أحاسيسنا عبر الحياة من خلال عدة لمسات مع الثقافة، أي أننا نتعامل مع الثقافة وكأنها شيء مقروء ومحسوس، وننسى في الكثير من الأحيان أن الثقافة والمنتجات الثقافية هي عمليا تهذيب حسي، بمعنى أنه يوجد شيء في إدراكك، في منظومتك الحسية تكونه الثقافة، فأنت تصير، على سبيل المثال، عندما ترى لونا أحمر يعطيك شعورا معينا، لأنك تعودت أن اللون الأحمر يخلق لديك إدراكا معينا.الشيء نفسه ينسحب على التجارب، ما هو الجميل وما هو القبيح وما هو مضحك وما هو غير مضحك، ما الذي يبعث على الحسرة والحزن، ما الذي يعطيك شعورا بأنك تمارس إنسانيتك وما الذي يعطيك شعورا بأنك تمارس العنف؟

الفن هو أحد صائغي كل هذه المفاهيم لدى البشر ككيان جمعي، وأنا أبحث في "الفن الرفيع"، بمعنى الفن الذي يحاول أن يكون منفصلا عن الحرفة ولا يمارس فقط لإنتاج غرض وظائفي، إنما يحاول إنتاج فنا مجردا.

"عرب 48": الكتاب يتوقف عند سؤال، هل يمكن لحركة استعمارية وحالة استعمارية أن تنتج هذا "الفن الجميل"؟

جبالي: هذا التساؤل يعاود نفسه في الكتاب، في الحالة الاستعمارية الممارسة على فلسطين، هل يمكن لحركة استعمارية أن تنتج هذا "الفن الجميل"؟

الكتاب يحاول أن يشرح الصياغة الحسية الخاضعة للحقل الفني الإسرائيلي، حيث يحاول الحقل الفني الإسرائيلي صياغة حسية جديدة قائمة على مفاهيم معينة، مثل، ماهي فلسطين؟ ما هي إسرائيل؟ ما هي الضحية؟ من هم اليهود؟ من يتعاطف مع من؟

وهو لا يحاول أن يصوّر أن كل شيء قبيح، بل هو يحاول القول إن العلاقة بين القبيح والجميل بما يتعلق بـ"الفن الرفيع" هي علاقة مركبة، والأعمال الفنية الإسرائيلية يوجد منها أعمالا معقدة وجميلة من الناحية الفنية، وهذا يعني عدم وجود علاقة مباشرة بين الحركة الاستعمارية الاستيطانية وبين القبح، وليس شرطا أن تتم الممارسة السلطوية الاستعمارية من خلال أعمال قبيحة بل يمكن ممارستها من خلال أعمال جدا جميلة ومعبرة ومتقنة ومتماشية مع الذوق والمعايير الفنية السائدة في العالم.

كما يحاول الكتاب معالجة الأعمال الفنية المعاصرة خلال الـ20-30 سنة الأخيرة، بشكل خاص، والتصدي لإشكالية أنه بالرغم من وعي الفنانين والحركات الفنية الإسرائيلية للموضة ولِمَا يحدث الآن في العالم وادعائهم أنهم ينتجون أعمالا سياسية وإنسانية تظل هذه الأعمال أعمالا إشكالية جدا.

"عرب 48": بمعنى أن هذه الأعمال لا تستطيع التحرر من أسْر الاحتلال والفكر الاستعماري، أو ربما الأفكار المسبقة؟

جبالي: هناك نظرة مسبقة يفهمها أغلب الناس في التصوير النمطي البصري الأدائي في الأعمال، مثل "صورة العربي" أو "صورة اليهودي"، والمثير أن الكتاب يحاول عرض طريقة تحليل جديدة وهو يحاول أن يبحث ويرى ما هي المنظومة المفاهيمية الحسية التي تقف في خلفية الأعمال.

الخلفية التي توجه هذه الأعمال والتي تمارسها في النهاية الأعمال على لأرض الواقع، حتى لو أن الأعمال أخذتها كمفهوم ضمنا، مثلا كيف أن الأعمال بغض النظر عن مدى نقديتها، تبقى تمارس من سلطة من له الحق في الهجرة إلى فلسطين، وتبقى تمارس سؤال من أين جاء اليهود؟

"عرب 48": تريد القول إنه بغض النظر عن تباين الأعمال الفنية الإسرائيلية وانقسامها بين يسار ويمين، هناك مشتركات توحدها وتربطها جميعها بالمنظومة التي تحدثت عنها وتشكل خلفيتها؟

جبالي: صحيح، وهذا بالنهاية ما يحدد تعريف العمل بإنه إسرائيلي أو غير إسرائيلي، وفي الحالة الإسرائيلية يحاول الكتاب بحث كل التعقيدات التي تنتجها هذه الحالة، على سبيل المثال هناك فنانون يهود ينتجون في العالم وهناك من ينتج على أرض فلسطين غير خاضع للسلطة الجمالية الصهيونية، وعمليا كأن الفن الإسرائيلي الذي يصير على أرض لا يملك كامل السيطرة عليها، بينما هو يدعي أنه يملكها بالكامل، وهو من ناحية ثانية، يدعي أنه يمثل اليهود في العالم ونفس الإشكاليات تحدث في الحقل الفني بين اليهود الذين لا يعيشون فقط في إسرائيل.

"عرب 48": ولكن هناك جسر يربط الفن الإسرائيلي بالفن الغربي كونه قادما من هناك؟

جبالي: الكتاب يتطرق للعلاقة بين النظام الحسي الجمالي الذي تحدثنا عنه وتكوينه وبين النظام الغربي العالمي، على سبيل المثال، لا أعرف إذا كنت قد سمعت عن الجدل المحتد الذي دار مؤخرا حول معرض "دكومينتا" الذي أقيم في كاسل بألمانيا، وكيف لم يتم استدعاء فنانين إسرائيليين للمعرض؟ وهل هذه ممارسة معادية للسامية؟ وهل مشاركة فنانين فلسطينيين يطالبون بمقاطعة إسرائيل هي ممارسة لاسامية؟

الكتاب الذي صدر بالتزامن مع الجدل حول معرض "دكومينتا"، يحاول أن يبحث "الفن الرفيع" الذي يمكن أن يعتبر المكان الذي يمارس فيه المجتمع كل الأسئلة التي تبحث بدون أو بعيدا عن الوسيط الفني المستخدم، مثلما تبحث الأكاديميا الأسئلة الجارية، لذلك هو يفقد العلاقة بالوسيط الفني المستخدم سواء سينما أو رسم أو نحت أو غيره، ويصبح هو الحقل الذي تحضر فيه كل وسائل التعبير والتشكيل الممكنة في الحياة البشرية.

ولذلك فهو من الممكن أن يأخذ السياسة كموضوع مباشر ولكن بعيدًا عن النشاط السياسي المباشر، لأنه نشاط فني وليس نشاطا سياسيا، هنا تدخل كل الإشكاليات أنه هل ممكن أن يمارس فن رفيع عملية سياسية، نعم أم لا.

"دوكومينتا" كانت مثال أنه من الممكن استخدام هذه السلطة الجمالية، أدوات خطابية لم يتم استخدامها لتحليل ما هو جميل وما هو قبيح وما هو غليظ وفظ وتحويلها إلى ممارسة سلطة باتجاه الحكم على هذا معادي للسامية وذاك غير معادي للسامية.

وهذا يعيدنا إلى سؤال، من هم اليهود؟ وبأي حد تصبح معاديا لليهود؟ وبأي حد تصبح معاديا للصهيونية؟ وعمليا إذا كنت تدعي أن عملا معينا يحرض على فئة معينة فمن الواضح أنه ليس له مكان بمعرض فني رفيع، بمعنى إذا كان الفن يمارس تحريضا عنصريا أو دعوة للفاشية، فأنه عادة مثل هذه الأعمال بغض النظر عن وسائطها أو صورتها البصرية ليس لها مكان في حقل فني يحاول تطوير الحس المرهف المؤنسن لدى البشر.

وعادة مثل هذا الادعاء يتم ممارسته ضد الفلسطينيين وفلسطين، والفن الذي كان معروضا في "دوكومينتا" والذي بغالبيته من العالم الإسلامي ومن الجنوب، وقد اعتبر النقاد الأوروبيون وخصوصا الألمان الكثير من الأعمال أعمالا تحريضية، عنصرية ومعادية للسامية، وهذا مثال كيف أن السلطة الجمالية التي يتحدث عنها الكتاب، لا يتم تكوينها فقط في الحيز الإسرائيلي الصهيوني وإنما أساسا في العلاقة بين الحيز الأوروبي وبين الحيز الإسرائيلي كحيز أوروبي.

"عرب 48": واضح أن الاستعمار الصهيوني في فلسطين هو استعمار أوروبي وثقافته أوروبية أيضا، ولذلك هي متجانسة مع الثقافة الأوروبية الغربية المهيمنة عالميا، ولكن الصهيونية بخلاف استعمارات أخرى، فرنسية وبريطانية وغيرها، كانت تتبع للثقافة الأم خلقت ثقافة خاصة بها ولذلك من الصعب الحديث عن ثقافة إسرائيلية خارج السياق الاستعماري؟

جبالي: الكتاب يشير لعدة جوانب فيها هذه الثقافة المهيمنة وهذا التكوين الجماعي يمارس سلطة استعمارية على فلسطين وعلى الفلسطينيين، وفي موضوع "الأرض الأم" فإن الفن الإسرائيلي يتخبط دائما في سؤال، ومن هنا جاء اسم الكتاب "مصيدة المكان"، أن هذه المجموعة تدعي أن أصلها من هذا المكان الذي جاءت لاستعماره بعكس بقية الحركات والدول الاستعمارية، القادمة من مكان آخر، فهم يدعون أنهم جاءوا لاستعادة المكان ووصل ما انقطع من التاريخ، هذا هو المميز في الحالة الإسرائيلية.

ولكن من ناحيتنا يجب ألّا نبالغ في فرادة هذه الحالة التي هي امتداد مستمر للسلطة الاستعمارية الرأسمالية، التي جرى تطويرها في العالم في القرون الأخيرة، وبهذا المعنى فإن الحركة الاستعمارية الصهيونية هي محاولة ممارسة إنتاج قطعة من أوروبا في فلسطين وهي ممارسة استعمارية ليس على الفلسطينيين فقط بل ممارسة سلطة استعمارية نخبوية على اليهود أنفسهم أيضا.

التعليقات